أن وجود الدولة ضرورة اجتماعية وسياسية يتطلبها السلام الاجتماعي وهذا يعني أن للدولة أهداف وواجبات ينبغي إنجازها وان هذه الأهداف والواجبات لا يمكن أن تكون ساكنة فلابد من مواكبة حركة المجتمع وتطورها والظروف التي يمر بها البلد سواء كانت محلية أو إقليمية أو دولية، و أن تلك المواكبة لا تخص سلطة واحدة من سلطات الدولة بل تمتد إليها جميعا، وأن تطور مفهوم الدولة يعني بالضرورة تطور مفهوم النظام السياسي لها إذ انه ركن من أركانها فلا يتصور قيام الدولة دون وجوده ولا يتوقع استمرارها عند انعدامه، فالنظام السياسي هو واجهة الدولة أمام الأفراد في الداخل وأمام الدول الأخرى في الخارج وهو الآلة التي تدير جهاز الدولة بغية تحقيق الخطط والبرامج في مختلف مجالات الحياة خدمة للصالح العام، ولذلك لم تعد السلطة والحكومة حكرا على فرد أو أفراد يسيرون الناس وفقا لمشيئتهم وأهوائهم، ولم يعد المواطن من رعايا الحاكم بل أصبح من رعايا الدولة ، ولم يعد الحاكم عصياً عن المساءلة لانه فوق القانون أو لأنه هو الدولة، حيث كانت شخصية الدولة تختلط بشخصية الحاكم . وبعد الفصل بين الشخصيتين وتمتع الدولة بالشخصية القانونية أصبح الحكام موظفين يعملون لدى الدولة شأنهم في ذلك شأن الأفراد الآخرين وفي الغالب يتم اختيارهم من قبل الشعب، ونتيجة لهذا التطور لاسيما في العراق ظهرت مؤسسات فاعلة ومؤثرة في النظام السياسي لم يكن لها وجود من قبل، متمثلة بالأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني و أصبح التداول السلمي للسلطة واضحا، وأن ذلك لم يكن وليد الصدفة بل كان نتيجة الجهاد والنضال الشاق للشعب العراقي وأصبحت هناك ثلاث سلطات (التشريعية والتنفيذية والقضائية) تؤدي عملها على أساس الفصل بينها وفقا لما حدده لها الدستور في المادة (47)منه، وعلى أساس نوع السلطة السياسية المحددة دستوريا يتم وصف الدولة فيما إذا كانت بسيطة أو مركبة.
ان جمهورية العراق تحولت من دولة بسيطة إلى دولة اتحادية بصدور قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية في سنة 2004 إذ نصت المادة الرابعة منه على (نظام الحكم في العراق جمهوري اتحادي (فدرالي ) ديمقراطي تعددي ويجري تقاسم السلطات فيه بين الحكومة الاتحادية و حكومات الإقليمية والمحافظات والبلديات والإدارات المحلية ويقوم النظام الاتحادي على أساس الحقائق الجغرافية والتاريخية والفصل بين السلطات وليس على أساس الأصل أو العرق أو الاثنية أو القومية أو المذهب). فيما رسم دستور جمهورية العراق لسنة 2005 في المادة (1) بشكل واضح نظام الحكم في البلد إذ نصت على (جمهورية العراق دولة اتحادية واحدة مستقلة ذات سيادة كاملة، نظام الحكم فيها جمهوري نيابي (برلماني) ديمقراطي وهذا الدستور ضامن لوحدة العراق) ومنه يتضح إن الحكم في العراق اتحادي نيابي وهو شكل من أشكال الحكم السياسي يعني تقسيم السلطات دستوريا بين الحكومة المركزية ووحدات حكومية محلية (أقاليم أو ولايات) وتكون تحت مظلة الحكومة المركزية و تتجلي وحدة سلطة الدولة الاتحادية بوضوح في كونها تمتد إلى كل مكان منها بدون استثناء وتمارس على كل مواطني الدولة الاتحادية، ونجد ان المشرع الدستوري قد اخذ او خلط بين النظام الفدرالي والنظام النيابي او البرلماني، اذ ان الفدرالية تقوم على أساس اللامركزية السياسية والتي تعني توزيع الاختصاصات السياسية بين الدولة الاتحادية والولايات بحيث تتعدد فيها السلطات العامة التقليدية الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية. أما النظام النيابي البرلماني والذي نصت عليه المادة (1) من دستور جمهورية العراق لسنة 2005 وأوضحت مكوناته المادة (116) وهي العاصمة والأقاليم والمحافظات اللامركزية والإدارات المحلية، فهو يعني أن تتمتع تلك المكونات باللامركزية الإدارية ولا يمكن أن تمنح السلطات التشريعية او القضائية التي هي سمة من سمات الأنظمة الفدرالية وليست البرلمانية وأن النظام الإداري اللامركزي يعني توزيع الوظائف الإدارية للدولة بين السلطة المركزية وبين هيئات إدارية وليست سلطات كما هو الحال في النظام الفيدرالي سواء كانت تلك الهيئات المنتخبة مجالس المحافظات أو المحافظين، أو غير منتخبة كالبلديات والمؤسسات العامة الأخرى.
أن الواضح من خلال نصوص الدستور انه جاء بأحكام مختلطة لإدارة الدولة كما أسلفنا، إذ نجده قد نظم علاقة الأقاليم مع السلطات الاتحادية وفقا لقواعد النظام الفيدرالي في حين نظم علاقة المحافظات غير المنتظمة في إقليم بالسلطات الاتحادية وفقا للنظام البرلماني، اذ قرر منح المحافظات غير المنتظمة في إقليم الصلاحيات الإدارية والمالية الواسعة وفقا لمبدأ اللامركزية الإدارية بموجب المادة (122 / ثانيا)، وأجاز تفويض اختصاصات الحكومة الاتحادية للمحافظات وبالعكس بموافقة الطرفين. فيما قرر منح الأقاليم الحق في ممارسة السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية باستثناء ما ورد من اختصاصات حصرية للسلطات الاتحادية المادة (121/اولا) ،إلا أن ممارسة تلك الصلاحيات (التشريعية والتنفيذية والقضائية) في الإقليم يتوقف على وضع دستور له يحدد سلطات الإقليم وصلاحياته وآليات ممارسة تلك الصلاحيات، وبشرط حاكم هو عدم تعارض دستور الإقليم مع دستور الدولة الاتحادية المادة (120)، وبالتالي من المفترض أن تبقى الأقاليم خاضعة لمبدأ اللامركزية الإدارية كما هو الحال في المحافظات غير المنتظمة في إقليم ما لم تقم بوضع دستور خاص بها إلا أن الدستور وفي المادة (117/أولاً) قد اقر بإقليم كردستان وسلطاته القائمة رغم عدم وجود دستور في الإقليم. إن الواضح من المادة (122 )من الدستور أنها قد قررت منح الصلاحيات الإدارية والمالية الواسعة إلى المحافظة دون الصلاحيات التشريعية والقضائية باستثناء التشريعات الإدارية اللازمة للإدارة وبعض الصلاحيات التنفيذية الأخرى غير الإدارية باعتبار أن الصلاحيات التنفيذية تشمل الصلاحيات السياسية والإدارية والمالية.
حرصت الدساتير المعتنقة للنظام البرلماني بوصفه نظاماً للحكم ومنها الدستور الهندي لسنة 1949 و الدستور الألماني الصادر في ذات العام، على منح السلطتين التشريعية والتنفيذية صلاحيات موجهة إزاء بعضها، تشهر وقت ظهور بوادر تفرد أي من السلطتين او تعسفها، من خلال منح البرلمان الاتحادي صلاحية سحب الثقة من الحكومة مقابل منح الأخيرة صلاحية حل البرلمان، في حين نجد أن الدستور العراقي لسنة 2005 قد خالف تلك النظم ولم يوازن بين صلاحيات السلطتين التشريعية والتنفيذية إذ منح البرلمان صلاحية سحب الثقة من الحكومة بموجب المادة (61 /ثانيا / 3) منه ولم يمنح الحكومة صلاحية حل البرلمان بل منح تلك الصلاحية للبرلمان ذاته بموجب المادة (64/أولا) منه رغم أن منح لك الصلاحية للحكومة يعتبر من أهم سمات النظام البرلماني و أمرا ضروريا للمساعدة في تنفيذ السياسة العامة التي ترسمها السلطة التنفيذية (مجلس الوزراء) في برنامجها الحكومي والذي يحتاج في أغلب الأحيان إلى إصدار التشريعات من البرلمان لتنفيذه، فكيف تتصرف الحكومة عندما يتعسف البرلمان في الامتناع عن إصدار تلك التشريعات وهو يعلم أنه لا صلاحية للحكومة في حله كما هو الحال في الأنظمة البرلمانية الأخرى؟ مما يعني انعدام التوازن المطلوب بين السلطتين التشريعية والتنفيذية في هذا المجال.
هذا من جانب ومن جانب آخر فقد حرصت الدساتير ذات النظم البرلمانية على تحديد اختصاصات الأقاليم و الولايات والاختصاصات المشتركة بينها وبين السلطات الاتحادية ثم تمنح جميع الاختصاصات الأخرى إلى السلطات الاتحادية، وقد خالف دستور جمهورية العراق لسنة 2005 تلك النظم أيضا اذ حدد صلاحيات حصرية للسلطات الاتحادية و صلاحيات مشتركة بينها وبين سلطات الأقاليم ثم ذكر أن كل ما لم ينص عليه في الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية يكون من صلاحية الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم .بل ذهب أكثر من ذلك ومنح الأولوية لقوانين الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم على القوانين الاتحادية في ما يخص الصلاحيات المشتركة بينهم المواد (110 – 115) منه ، كما أنه وعلى الرغم من أن المادة 114 من الدستور التي حددت الاختصاصات المشتركة كانت قد ذكرت أنها اختصاصات مشتركة بين السلطات الاتحادية و سلطات الأقاليم ولم تذكر المحافظات غير المنتظمة في اقليم ثم عاد المشرع الدستوري ومنح الأولوية لقوانين المحافظات رغم ذلك ورغم انه لم يمنح تلك المحافظات الحق في ممارسة السلطات التشريعية ، أي أنه لم يمنحها الحق في إصدار القوانين باستثناء التشريعات الإدارية التي تمكنها من تحقيق مبدأ اللامركزية الإدارية كما أسلفنا، كما نجد أن دستور جمهورية العراق لسنة 2005 قد جاء بحكم خاص على خلاف جميع النظم البرلمانية عندما منح سلطة الأقاليم الحق في تعديل تطبيق القانون الاتحادي في الإقليم في حال وجود تعارض أو تناقض بينه وبين قانون الإقليم، أي أن منح العلوية لقوانين الأقاليم على القوانين الاتحادية. ومن المعلوم أنه تلك الأحكام لا يمكن المساس بها إلا عن طريق تعديل الدستور وفقا للآليات الجامدة المنصوص عليها في المادة 26 منه.
القاضي
غالب عامر الغريباوي
رئيس جمعية القضاء العراقي